يقتصر بناءُ حضارة السومريين وازدهارها ونضجها الفكري (تطورت الثقافة السومرية ما بين 3500-2000 ق م) على شعب سومر فحسب، بل كان تأثيرها مستقبليًّا أيضًا. وهذا ما يؤكد القدرة الدينامية الشمولية للعقل السومري الذي اعتُبِرَ عقلاً "مشاكسًا" لأنه اعتمد السؤال منهجًا لتفسير غموض الظواهر الطبيعية والحياتية. فالسؤال بدء المعرفة، مما يؤدي إلى تراكمات حضارية. وينطبق مبدأ "المشاكسة" على الروح السومرية أيضًا، لأنها "روح" تتمثل قسوة الطبيعة وتناقضاتها وتناغُمها، بكلِّ ما تنطوي عليه البصيرة من إمكانات، وتحوِّلها إلى أجمل القصائد العاطفية والفلسفية والوجودية، فتتميز لغةً شعريةً للطقوس والأساطير التي تثير الخوف والرهبة في الإنسان السومري، لكنها مازالت تؤثر فينا بعبور إمكاناتها التعبيرية أوقيانوس الزمن. لذا ترانا ما نزال نقف مذهولين أمام الكثير من رموز تلك الأحلام والرؤى العجائبية المدهشة التي وصلتنا.
أولاً: في قدسية الشبق الطقسي
وقد كان لزوجَي آلهة الخصب والحب السومرية إنَّانا–دموزي، وبعدهما عشتار–تموز في بابل، أثرٌ ومكانةٌ خاصان في أساطير السومريين والبابليين والآشوريين والحضارات الأخرى اللاحقة وملاحمها وطقوسها، وذلك نتيجة للتأثير المتبادل بين الحضارات التي تكاملت في المنطقة حتى بلغت ذروتها الحضارية، وانهارت من بعدُ وانعدمت.
إنَّانا ودموزي: الزواج المقدس.
من هذا المنطلق، علينا أن نفهم الأهمية القصوى لمشاركة إنسان ما بين النهرين في هذه الطقوس والمناحات الدينية الخاصة بآلهة الخصب في المعبد الرامية إلى التطهر من أدران الآثام كلِّها، كما هي الحال في خصوص أهمية التعزية الحسينية عند المسلمين الشيعة في وقتنا الحاضر.
إن ما نملك من معلومات آثارية واضحة ودقيقة عن الحضارة البابلية يؤكد وجود تطور راقٍ في ديانة بابل. وجوهرها ينص على أن أسطورة تموز – الإله القتيل – وقيامته من جديد كان يعاد "تمثيلها" سنويًّا في احتفاء ديني طقوسي ضمن مهرجان السنة البابلية الجديدة، ويساهم فيه مجموع الشعب؛ وهو ما يشبه اليوم الاحتفال بالربيع والخصب والحياة الجديدة. وقد لاحظ الپروفسور فرانكفورت أن السومريين والبابليين لم يرووا أساطيرهم وطقوسهم شفاهًا فحسب، بل كانوا يعيدون تمثيلها أمام الجمهور المتدين إبان الطقوس الكهنوتية[2]. وهذا التأكيد أيضًا لا يفترض وجود "مسرح" بالمعنى الواضح للكلمة نظرًا لعدم وجود اكتشافات ذات علاقة بالمسرح؛ إنما من الضروري أن نتذكر دومًا أن الأمر أشبه بالمناحة أو الرثاء أو المنقبة الدينية التي يتكفل كهنةُ المعبد القيام بها[3].
دموزي بين كبشين ممسكًا بفرعي شجرة القمر (شجرة الحياة).
لقد وصلتنا بعض الطقوس الرئيسية المرتبطة بالثقافتين السومرية والبابلية. وهذا التداخل بينهما تحتِّمه طبيعةُ كون أية حضارة جديدة تأخذ الكثير من أسُس ديانة سابقتها وطقوسها وثقافتها وآلهتها، مع تغيير أسمائها. وإن أهم هذه الطقوس هي طقوس الزواج المقدس: زواج الإلهين السومريين إنَّانا–دموزي أو البابليين عشتار–تموز.
طقوس بدء الخليقة
هناك طقوس تاريخية تسمَّى بـ"رثاء المدن"، وأهمها "رثاء أور". وهي طقوس كان يؤديها الكهنة والملوك أنفسهم (لأسباب سياسية واجتماعية، ربما، حتى يستطيعوا تثبيت سلطانهم باسم سلطة الإله الذي يحتفون به)، وتُعتبَر جزءًا من التصورات الروحية والثقافية للمجتمع القديم. أما تراجيديتها فهي نتيجة لتراجيدية الأحداث، وكذلك مصائر أبطالها من الآلهة التي كانت تقام من أجلها هذه الطقوس والتي تخيلها الإنسان على شاكلته. إنها طقوس التكرار السنوي لخلق العالم وتجدد الولادة بالعودة إلى الزمان الأصلي، إلى البدء، على حدِّ قول ميرسيا إلياد[4]. ولهذا يمكن اعتبارها طقوسًا دينية وتاريخية واجتماعية فيها تأكيد على الرهبة من الآلهة والكثير من الأحداث والشعر الدرامي والموعظة الفلسفية.