إن أهم الطقوس الرافدينية التي كانت تقام سنويًّا هي طقوس رأس السنة البابلية، وهي تتكون من:
- طقوس الزواج المقدس؛
- طقوس الحزن الجماعي لموت الإله دموزي السومري (تموز البابلي) وقيامته؛ و
- قدسية الشبق في طقوس الخصب الرافدينية.
وعادة ما كانت هذه الطقوس تؤدى كطقس واحد متكامل على مدى أيام، حيث يحل الكهنة والملوك فيها بدائل عن الإله. وهي طقوس حزن وابتهاج في آنٍ واحد لمأساة إلهة الخصب باحتجاز الإله دموزي–تموز في العالم الأسفل، ومواساة شعب وادي الرافدين لإلهة الأنوثة المقدسة إنَّانا–عشتار، "ملكة السماء"، لحزنها على حبيبها من أجل إنقاذه من الموت. ولهذا فإن تأدية طقس زواج الإلهة إنَّانا من الإله دموزي سنويًّا يدل على مدى تعلق إنسان وادي الرافدين بإلهة الخصب، لأنه من دون "سيدة الأنوثة والشبق" – التي تُعَد أرهب الإلهات جميعًا – لا يتم إخصابٌ في الحياة، لأنها هي التي تُنزِل بذرة الخصب (ماء قلب الرجل) في رحم المرأة:
أنا المعدن الحنون،
أنا مَن يدفع الرجلَ إلى المرأة،
ويدفع المرأةَ إلى الرجل.
من دوني [...] يضطجع الرجلُ وحيدًا في غرفته،
وتنام المرأةُ على جنبها وحيدة.
وتقرر إلهة الموت أرشكيجال:
أما تموز، زوجها الشاب،
فخذوه واغسلوه بماء طَهور وضمِّخوه بالعطور الطيبة،
ألبسوه عباءة ودعوه يعزف على نايه اللازوردي،
ولتُحِطْ به كاهنات عشتار يهدِّئن من خاطره.
... مما يحتم تمثيل هذه المشهد – إلى أن يبدأ الشعب بالابتهاج بقيامة الإله من جديد، فيعم الخصب والربيع في عيد سنوي مقدس تبنَّتْه جميع الحضارات الأخرى التي سكنت المنطقة. وقد تشكَّل عيد رأس السنة البابلية من اندماج عيدين قديمين، وهو يستمر مدة ثلاثة أيام في شهر نيسان. فكما يؤكد فراس السواح[5]:
يتم في اليوم الأول بكاء تموز الميت وتمثيل عذاباته وآلامه، بشكل يدفع جمهرة المحتفلين إلى هستيريا جماعية، يتخلَّلها، إلى جانب النحيب والعويل، لطمُ الخدود وتمزيقُ الثياب وما إلى ذلك. [...] وفي اليوم الثالث، عندما يعلن الكهنة قيام السيد [الإله] من بين الأموات، ينقلب المأتم إلى عرس، وتبدأ احتفالات العيد الحقيقية، التي يتخلَّلها السكر والمجون والرقص والموسيقى والممارسات الجنسية [الإباحية]. وتلك هي عدة الغيبوبة العشتارية التي تعبُر بالمريد من جفاف الشمس إلى نداوة القمر.
وهذا قطعًا هو الحياة بوجهيها التراجيدي والكوميدي. وهذان الطقسان (عيد رأس السنة/طقس الزواج المقدس) هما الأوضح بين الأساطير والطقوس الأخرى، مما يساعد على أدائها كلَّ عام.
عشتار البابلية: الأم الكبرى وربة الخصب.
ومن خلال تتبُّع حيثيات طقوس الزواج المقدس، نلمس رمزية اللغة المليئة بالاستعارات الجنسية والإشارات الملغزة التي تدلِّل على قدسية الخصب. وهذا كله يجري على لسان إلهَي الخصب، ممثَّلين بالكاهنة والملك، بالإضافة إلى الكهنة منظِّمي العيد. وتدلل مثل هذه اللغة على قدسية دور المواقعة الجنسية المقدسة وعلاقتها بالخصب في الحياة، لأنها زواج بين إله مقدس دموزي/تموز، يقوم به الإله (الملك نيابة عنه)، وبين إلهة أكثر قدسية هي إنَّانا/عشتار، تقوم به الكاهنة نيابة عنها، تلك
[...] التي ستصبح، بعد أن يفض الملك بكارتها، من المومَسات المقدسات لتعيش حياتها في معبد الإلهة، فتنقطع نهائيًّا إلى عبادتها، وتحرَّم عليها ممارسةُ الجنس، لكن يمكن لها أن تختار من يضاجعها من الكهنة متى تشاء. لذا فإن المومَسات في المجتمع السومري والبابلي لسن مُهانات اجتماعيًّا، بل إنهن محترمات ومقدسات، يمتهنَّ حرفة ترعاها الإلهة إنَّانا/عشتار، باعتبارها إلهة الخصب والحب والجنس والشبق الإلهي أيضًا.
لذا فعيد رأس السنة البابلية هو عيد مقدس تجلس فيه نساء المدينة، بغضِّ النظر عن كونهن ثيِّبات أم أبكارًا، في معبد عشتار، ويمر الرجال للاختيار في مقابل أن يلقي كل منهم قطعة نقد صغيرة ليختار المرأة التي يشاء، فتتبعه إلى البيت لتصبح زوجته المباركة من إلهة الحب. أما أطفالها، إذا كانت متزوجة، فبحسب رغبتها ورغبة الزوج السابق، يمكن لهم أن يعيشوا معها ويرعاهم الزوج الجديد كأبنائه دون أن يتخلوا عن نسب الأب الحقيقي. كما يمكن للمرأة أن تعود إلى الزوج السابق بموافقتها هي والزوجين القديم والجديد.
ومن المعروف تاريخيًّا أن إقامة طقس الزواج المقدس تسمح لكهنة المعبد أن يتدخلوا في قوانين السماء لصالح الواقع، وبالذات لتوطيد سلطة الملك وخدمته، باعتباره ظل الرب على الأرض، بل الرب نفسه في بعض الحضارات. وكما يؤكد صموئيل كريمر[6]، فإن الكهنة اعتنقوا فكرة تُدخِلُ الاطمئنان والبهجة في قلوب الناس، ومُفادها هو أن مليكهم أصبح عاشقًا وزوجًا للإلهة إنَّانا/عشتار، وبذلك يشاركها قوَّتها وقدرتها على الإخصاب التي لا تقدَّر بثمن، ويشاركها خلودها أيضًا.